فصل: تفسير الآيات (109- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (109- 112):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
{ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب...} الآية. نزلت حيت قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أُحدٍ: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحقِّ ما هُزمتهم فارجعوا إلى ديننا، فذلك قوله تعالى: {لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} أَيْ: في حكمهم وتديّنهم ما لم يؤمروا به {من بعد ما تبين لهم الحق} في التَّوراة أنَّ قول محمَّدٍ صدقٌ ودينه حقٌّ {فاعفوا واصفحوا} وأعرضوا عن مساوئ أخلاقهم وكلامهم وغلِّ قلوبهم {حتى يأتي الله بأمره} بالقتال.
{وقالوا لن يدخل الجنة...} الآية، أَيْ: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة {إلاَّ مَنْ كان هوداً} وقالت النَّصارى: لن يدخلها إلاَّ النَّصارى {تلك أمانيهم} التي تمنَّوها على الله سبحانه باطلاً {قل هاتوا برهانكم} قرِّبوا حجَّتكم على ما تقولون، ثمَّ بيَّن مَنْ يدخلها فقال: {بلى} يدخلها {مَنْ أسلم وجهه لله} انقاد لأمره وبذلك له وجهه في السُّجود {وهو محسن} مؤمنٌ مصدقٌ بالقرآن.

.تفسير الآيات (113- 115):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} لمَّا قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود، وكفَّر كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخر، وقوله تعالى: {وهم يتلون الكتاب} يعني: إنَّ الفريقين يتلون التَّوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد، فدلَّ بهذا على ضلالتهم {كذلك قال الذين لا يعلمون} يعني: كفَّار الأمم الماضية، وكفَّار هذه الأمَّة {مثل قولهم} في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم، فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل مَنْ لا يعلم الكتاب أنَّه من الله تعالى من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه {فالله يحكم بينهم...} الآية: أَيْ: يُريهم عياناً مَنْ يدخل الجنَّة ومَنْ يدخل النَّار.
{ومن أظلم ممن منع مساجد الله} يعني: بيت المقدس ومحاريبه. نزلت في أهل الرُّوم حين خرَّبوا بيت المقدس {أولئك} يعني: أهل الرُّوم {ما كان لهم أن يدخلوها إلاَّ خائفين} لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلاَّ خائفاً لو عُلم به قُتل {لهم في الدنيا خزيٌ} يعني: القتل للحربيِّ، والجزية للذميِّ.
{ولله المشرقُ والمغرب} أَيْ: إنَّه خالقهما. نزلت في قوم من الصَّحابة سافروا فأصابهم الضَّباب فتحرَّوا القِبلة وصلَّوا إلى أنحاءٍ مختلفةٍ، فلمَّا ذهب الضَّباب استبان أنَّهم لم يصيبوا، فلمَّا قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقوله تعالى: {فأينما تولوا} أَيْ: تصرفوا وجوهكم {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فهناك قِبلة الله وجهته التي تعبَّدكم الله بالتوجُّه إليها {إنَّ الله واسعٌ عليم} أَيْ: واسع الشَّريعة يُوسِّع على عباده في دينهم. اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فمنهم مَنْ قال: هي منسوخة الحكم بقوله: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام}؛ومنهم مَنْ قال: حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر. وقيل: إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له: كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته، ومعنى {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فَثَمَّ رضا الله وأمره، كما قال: {إنَّما نُطعمكم لوجه الله} والوجهُ والجِهةُ والوِجهةُ: القِبلةُ.

.تفسير الآيات (116- 120):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
{وقالوا اتخذ الله ولداً} يعني: اليهود في قولهم: {عزيز ابنُ الله} والنصارى في قولهم: {والمسيح ابنُ الله} والمشركين في قولهم: الملائكة بناتُ الله، ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد فقال: {سبحانه بل} ليس الأمر كذلك {له ما في السموات والأرض} عبيداً وملكاً. {كلٌّ له قانتون} مطيعون: يعني: أهل طاعته دون النَّاس أجمعين.
{بديع السموات والأرض} خالقهما وموجدهما لا على مثالٍ سبق. {وإذا قضى أمراً} قدَّره وأراد خلقه {فإنما يقول له كن فيكون} أَيْ: إنما يُكوِّنه فيكون، وشرطه أن يتعلَّق به أمره. وقال الأستاذ أبو الحسن: يُكوِّنه بقدرته فيكون على ما أراد.
{وقال الذين لا يعلمون} يعني: مشركي العرب قالوا لمحمَّدٍ: لن نؤمن لك حتى {يكلّمنا الله} أنَّك رسوله {أو تأتينا آية} يعني: ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا...} الآيات. ومعنى {لولا يكلِّمنا الله} أَيْ: هلاَّ يُكلِّمنا الله أنَّك رسوله. {كذلك قال الذين من قبلهم} يعني: كفَّار الأمم الماضية كفروا بالتَّعنُّتِ بطلب الآيات كهؤلاء {تشابهت قلوبهم} أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة ومسألة المحال {قد بيَّنا الآيات لقوم يوقنون} أَيْ: مَنْ أيقن وطلب الحقَّ فقد أتته الآيات؛ لأنَّ القرآن برهانٌ شافٍ.
{إنا أرسلناك بالحق} بالقرآن والإسلام، أَيْ: مع الحقِّ {بشيراً} مُبشِّراً للمؤمنين {ونذيراً} مُخوِّفاً ومُحذِّراً للكافرين {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} أَيْ: لست بمسؤولٍ عنهم، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل بأسه باليهود لآمنوا»، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أَيْ: ليس عليك من شأنهم عُهدةٌ ولا تبعة.
{ولن ترضى عنك اليهود...} الآية نزلت في تحويل القبلة، وذلك أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يرجون أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يرجع إلى دينهم، فلمَّا صرف الله تعالى القِبلة إلى الكعبة شقَّ عليهم، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} يعني: دينهم وتصلِّي إلى قبلتهم {قل إنَّ هدى الله هو الهدى} أَي: الصِّراط الذي دعا إليه، وهدى إليه هو طريق الحقِّ {ولَئِنِ اتبعت أهواءهم} يعني: ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإِمهال {بعد الذي جاءك من العلم} أَي: البيان بأنَّ دين الله عزَّ وجلَّ هو الإسلام وأنَّهم على الضَّلالة {مالك من الله من وليٍّ ولا نصير}.

.تفسير الآية رقم (121):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
{الذين آتيناهم الكتاب} يعني: مؤمني اليهود {يتلونه حق تلاوته} يقرؤونه كما أُنزل ولا يُحرِّفونه، ويتَّبعونه حقَّ اتِّباعه.

.تفسير الآيات (124- 127):

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
{وإذا ابتلى إبراهيم ربُّه} اختبره: أَيْ: عامله معاملة المُختبِر {بكلماتٍ} هي عشر خصالٍ: خمسٌ في الرأس، وهي: الفرق، والمضمضة، والاستنشاق، والسِّواك، وقصُّ الشَّارب، وخمسٌ في الجسد، وهي: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، ونتف الرُّفغين {فأتمهنَّ} أدَّاهنَّ تامَّاتٍ غير ناقصات {قال} الله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} يقتدي بك الصَّالحون. فقال إبراهيم: {ومِنْ ذريتي} أَيْ: ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمةً يُقتدى بهم، فقال الله عزَّ وجلَّ {لا ينال عهدي الظالمين} يريد: مَنْ كان من ولدك ظالماً لا يكون إماماً، ومعنى: {عهدي} أَيْ: نُبوَّتي.
{وإذ جعلنا البيت} يعني: الكعبة {مثابةً للناس} معاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً، كلَّما انصرفوا اشتاقوا إليه {وأَمْناً} أَيْ: مؤمناً، وكانت العرب يرى الرَّجل منهم قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرَّض له، وأمَّا اليوم فلا يُهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق، وعند الشافعيِّ: الأولى أن لا يُهاج، فإنْ أُخيف بإقامة الحدِّ عليه جاز. وقد قال كثيرٌ من المفسرين: مَنْ شاء آمن، ومَنْ شاء لم يُؤمن، كما أنَّه لمَّا جعله مثابةً، مَنْ شاء ثاب، ومَنْ شاء لم يثب. {واتَّخذوا} أَيْ: النَّاس {من مقام إبراهيم} وهو الحجر الذي يُعرف بمقام إبراهيم، وهو موضع قدميه {مصلَّى} وهو أنَّه تُسنُّ الصَّلاة خلف المقام، قُرئ على هذا الوجه على الخبر، وقرئ بالكسر على الأمر. {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما وأوصينا إليهما {أنْ طهِّرا بيتي} من الأوثان والرِّيَب {للطائفين} حوله، وهم النزائع إليه من آفاق الأرض {والعاكفين} أي: المقيمين فيه، وهم سكان الحرم {والركع} جمع راكع و{السجود} جمع ساجد؛ مثله: قاعد وقعود.
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أَيْ: هذا المكان وهذا الموضع {بلداً} مسكناً {آمناً} أَيْ: ذا أمنٍ لا يُصاد طيره، ولا يُقطع شجره ولا يُقتل فيه أهله. {وارزق أهله من الثمرات} أنواع حمل الشَّجر {مَنْ آمن منهم بالله واليوم الآخر} خَصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين. قال تعالى: {وَمَنْ كفر فأمتعه قليلاً} فسأرزقه إلى منتهى أجله {ثمَّ أضطره} أُلجئه في الآخرة {إلى عذاب النار وبئس المصير} هي.
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد} أصول الأساس {من البيت وإسماعيل} ويقولان: {ربنا تقبلْ منَّا} تقرُّبنا إليك ببناء هذا البيت {إنك أنت السميع} لدعائنا {العليمُ} بما في قلوبنا.

.تفسير الآيات (128- 132):

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} مُطيعين مُنقادين لحكمك {ومن ذريتنا أمة} جماعةً {مسلمة لك} وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان {وأرنا مناسكنا} عرّفنا مُتَعبَّداتنا.
{ربنا وابعث فيهم} في الأمَّة المسلمة {رسولاً منهم} يريد: محمَّداً صلى الله عليه وسلم {يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} أَي: القرآن {ويزكيهم} ويُطهِّرهم من الشِّرك {إنك أنت العزيز} الغالب القويُّ الذي لا يعجزه شيءٌ، ومضى تفسير الحكيم.
{ومَنْ يرغب عن ملة إبراهيم} أَيْ: وما يرغب عنها ولا يتركها {إلاَّ مَنْ سفه نفسه} أَيْ: جهلها بأَنْ لم يعلم أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها {ولقد اصطفيناه في الدُّنيا} اخترناه للرِّسالة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أَيْ: من الأنبياء.
{إذ قال له ربه أسلم} أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد، وقيل: أسلم نفسك إلى الله {قال أسلمت} بقلبي ولساني وجوارحي {لرب العالمين}.
{ووصَّى بها} أَيْ: أمر بالملَّة، وقيل: بكلمة الإِخلاص {إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ} أراد: أَنْ يا بنيَّ {إنَّ الله اصطفى لكم الدين} أَي: الإِسلام دين الحَنيِفيَّة {فلا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون} أَي: الزموا الإِسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه.

.تفسير الآيات (133- 139):

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
{أم كنتم شهداء} ترك الكلام الأوَّل، وعاد إلى مُخاطبة اليهود. المعنى: بل أكنتم شهداء، أَيْ: حضوراً {إذ حضر يعقوب الموت} وذلك أنَّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألستَ تعلم أنَّ يعقوب يوم مات ما أوصى بنيه باليهوديَّة؟ فأكذبهم الله تعالى، وقال: أكنتم حاضرين وصيته {إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي}.
{تلك أمة} يعني: إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه {قد خلت} قد مضت {لها ما كسبت} من العمل {ولكم} يا معشر اليهود {ما كسبتم} أَيْ: حسابهم عليهم، وإنَّما تُسألون عن أعمالكم.
{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران، قال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلاَّ ذلك، فقال الله تعالى: {قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً} يعني: بل نتبع ملَّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن الأديان كلِّها إلى دين الإسلام، ثمَّ أمر المؤمنين أن يقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} يعني: القرآن {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} وهم أولاد يعقوب، وكان فيهم أنبياء لذلك قال: وما أنزل إليهم. وقوله تعالى: {لا نفرِّق بين أحدٍ منهم} أَيْ: لا نكفر ببعضٍ ونؤمن ببعضٍ، كما فعلت اليهود والنَّصارى.
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أَيْ: إِنْ أتوا بتصديقٍ مثلِ تصديقكم، وكان إيمانُهم كإيمانكم {فقد اهتدوا} فقد صاروا مسلمين {وإن تولوا} أعرضوا {فإنما هم في شقاق} في خلافٍ وعداوةٍ {فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله} ثمَّ فعل ذلك، فكفاه أمر اليهود بالقتل والسَّبي في قريظة، والجلاء والنَّفي في بني النَّضير، الجِزية والذَّلَّة في نصارى نجران.
{صبغة الله} أَي: الزموا دين الله {ومَنْ أحسن من الله صبغة} أي: ومَنْ أحسنُ من الله ديناُ؟.
{قل} يا محمَّدُ لليهود والنَّصارى: {أتحاجوننا في الله} أَتُخاصموننا في دين الله؟ وذلك أنَّهم قالوا: إنَّ ديننا هو الأقدم، وكتابنا هو الأسبق، ولو كنتَ نبيّاً لكنتَ منَّا {ولنا أعمالنا} نُجازى بحسنها وسيِّئها، وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا {ونحن له مخلصون} مُوحِّدون.